بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، الذي اتصف بالصفات العلى، والأسماء الحسنى، الذي لا راد لأمره، ولا معقّب لحكمه، نحمده بجميع محامده، على تواتر نعمه وآلائه، وصلى الله على نبينا محمد خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الكرام أجمعين
أما بعد:
روى الإمام أحمد وصححه العلامة الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه». قال العلامة ابن القيّم – رحمه الله تعالى - : وقولهم: من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه حق، والعوض أنواع مختلفة؛ وأجلّ ما يعوض به: الأنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى" . (انظر كتاب الفوائد لابن القيّم ص107).
فأقول: لقد نزلت بالمسلمين؛ بل بالعالم أجمعين نازلة، وهي لم تنزل وتكون إلا بأمر الله تعالى وتقديره، الذي قدّر جميع الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذه النازلة هي ظهور هذا الوباء الذي عمَّ أرجاء العالم، وخرج عن سيطرتهم في هذه الأيام، والتي أظهرت ظهوراً جلياً عظمة الخالق المدبّر تبارك وتعالى، وضعف العالم أجمعين برغم التطور العلمي، وكأن الله تبارك وتعالى أراد أن يظهر للعالم عِظَم قوته وقهره مع ضعفهم وفقرهم واحتياجهم إلى ربهم برغم تقدمهم العلمي التكنلوجي كما يقولون، حيث داهم الخطر الجميع فلم يبق بلد إلا ودخله هذا الوباء على تفاوت بينهم.
وقد أفتى علماء الإسلام بوجوب أخذ الاحتياطات اللازمة والإجراءات الوقائية للحيلولة دون تفشي هذا الوباء المعدي بين الناس، ومن ذلك الابتعاد عن الاجتماع والاختلاط لرفع الحرج عن الناس وللحيلولة دون انتشار هذا الوباء بينهم، وذلك من باب الأخذ بالأسباب الشرعية، انطلاقاً من النصوص الشرعية الصحيحة التي أمرت بذلك، والتي منها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا يوردن ممرض على مصح»، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الوباء رجز أهلك الله به الأمم قبلكم وقد بقي منه في الأرض شيء يجيء أحيانا ويذهب أحيانا فإذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها فراراً وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها»، وغيرها من النصوص، وكذلك من هذه الإجراءات الوقائية ترك صلاة الجمعة وترك صلاة الجماعة في المساجد تفادياً لما يحصل فيها من الاختلاط الذي يحصل به انتقال هذا الوباء الخطير بين المصلين، وما ذلك إلا للحفاظ على سلامتهم.
ونحن تبعاً لهذه النصوص السابقة ولعلمائنا نقول: لا حرج في ترك الجمعة والجماعة - إن شاء الله تعالى – إلى حين السيطرة على هذا الوباء، ومن كان المرض سبباً في منعه وحبسه عن حضور المساجد فإن الله تبارك وتعالى يكتب له أجره كاملاً لا ينقص منه شيئاً، كما لو صلّاها في المسجد، لأنه ما ترك بيوت الله تهاوناً ولا تكاسلاً ولا زهداً عنها، ولكنه فعل ذلك استجابةً لله تبارك وتعالى القائل: (وما جعل عليكم في الدين من حرج... الآية)، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان حريصاً على أن لا يحرّج على أمته، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدّم بعض الصلوات أو يؤخرها عن وقتها، عند حصول الحرج ومنه نزول المطر رفعاً ودفعاً للحرج عن هذه الأمة.
وانتشار المرض والوباء بين الناس أشد حرجاً من المطر، فمن فعل ذلك لهذه الأسباب السابقة وأخذ بما رُخّص له فإن الله تبارك وتعالى يعوّضه خيراً من ذلك، لأنه ما حبسه عن شهود الجماعة في المسجد إلا العذر، وقد بشّرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً»، وفي حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً و لا وادياً إلا و هم معنا حبسهم العذر».
وقد أجاز أئمة من السلف ترك الجمعة والجماعة في المسجد لرفع الحرج أو دفعه، كما نقل الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى – في (سير أعلام النبلاء 4/191) عن أحد أئمة التابعين وهو مطرّف بن عبد الله بن الشخّير: أنه كان إذا هاج الناس (أي اقتتلوا)، قال: يلزم قعر بيته، ولا يقرب لهم جمعة ولا جماعة حتى تنجلي" أي الفتنة. اهـ
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه (إنباء الغمر بأبناء العمر 3/326) ضمن وقائع سنة (827 هـ): أن الناس قد تركوا الصلاة في مكة، فقال: "وفي أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات في كل يوم أربعون نفساً، وحصر من مات في ربيع الأول ألفاً وسبعمائة، ويقال إن إمام المقام لم يصل معه في تلك الأيام إلا اثنين وبقية الأئمة بطلوا لعدم من يصلي معهم. "اهـ، فمن باب أولى تترك الصلاة في المسجد النبوي والمسجد الأقصى وبقية المساجد لهذا السبب، فهذه النصوص والآثار بشارات نستأنس ونؤنّس بها أهل السنة – عمّار المساجد – لرفع الحرج عنهم، ولا يبتأسوا، لأنهم تركوا الصلاة في المساجد فإنهم تركوا ذلك لله تبارك وتعالى، مع أن قلوبهم متعلّقة فيها.
ونختم كلمتنا هذه بما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر و كان خيرا له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبعد هذا المرض والوباء عن المسلمين جميعاً، وأن يجعلها برداً وسلاماً على المسلمين، وأن يشفى مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يرحم موتانا وموتى المسلمين...آمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
🖋 كتبه
أبو ليث هادي نزال
٣ شعبان1441 هـ
